فصل: باب هَلْ يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ لِحَوَائِجِهِ إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


بسم الله الرحمن الرحيم

كِتَاب الاعْتِكَافِ

باب الاعْتِكَافِ فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ

الاعْتِكَافِ فِى الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا لِقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِى الْمَسَاجِدِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ الآية‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، وعَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، زادت عائشة‏:‏ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام كَانَ يَعْتَكِفُ فِى الْعَشْرِ الأوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ، فَاعْتَكَفَ عَامًا حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَهِىَ اللَّيْلَةُ الَّتِى يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنِ اعْتِكَافِهِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِى فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الأوَاخِرَ، وَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَقَدْ رَأَيْتُنِى أَسْجُدُ فِى مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ، وَالْتَمِسُوهَا فِى كُلِّ وِتْرٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

العكوف فى اللغة‏:‏ اللزوم للشىء والمقام عليه، وقال عطاء‏:‏ قال يعلى بن أمية‏:‏ إنى لأمكث فى المسجد الساعة، وما أمكث إلا لأعتكف‏.‏

قال عطاء‏:‏ وهو اعتكاف ما مكث فيه، وإن جلس فى المسجد احتساب الخير فهو معتكف وإلا فلا‏.‏

وأجمع العلماء أن الاعتكاف لا يكون إلا فى المساجد لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِى الْمَسَاجِدِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏‏.‏

وقال حذيفة‏:‏ لا اعتكاف إلا فى مسجد مكة أو المدينة أو بيت المقدس‏.‏

وقال سعيد بن المسيب‏:‏ لا اعتكاف إلا فى مسجد نبى، وذهب هؤلاء إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد، وهو ما بناه نبى؛ لأن الآية نزلت على النبى عليه السلام وهو معتكف فى مسجده، فكان القصد والإشارة إلى نوع تلك المساجد مما بناه نبى، وذهبت طائفة إلى أنه لا اعتكاف إلا فى مسجد تجمع فيه الجمعة، روى هذا القول عن على، وابن مسعود، وعروة، وعطاء، والحسن، وابن شهاب، وهو قول مالك فى ‏(‏المدونة‏)‏، قال‏:‏ أما من تلزمه الجمعة فلا يعتكف إلا فى الجامع، قال‏:‏ وأقل الاعتكاف عشرة أيام، وروى عنه ابن القاسم فى العتبية‏:‏ لا بأس بالاعتكاف يومًا أو يومين، وقد روى أن أقله يوم وليلة، وقال فى المدونة‏:‏ لا أرى أن يعتكف أقل من عشرة أيام، فإن نذر دونها لزمه‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ الاعتكاف فى كل مسجد جائز، روى ذلك عن النخعى، وأبى سلمة والشعبى، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والشافعى، وأحمد، وهو قول مالك فى ‏(‏الموطأ‏)‏، قال‏:‏ لا أراه كره الاعتكاف فى المساجد التى لا يجمع فيها، إلا كراهية أن يخرج المعتكف من مسجده الذى اعتكف فيه إلى الجمعة، فإن كأن مسجدًا لا يجمع فيه، ولا يجب على صاحبه إتيان الجمعة فى مسجد سواه، فلا أرى بأسًا بالاعتكاف فيه؛ لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏(‏وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِى الْمَسَاجِدِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ فعم المساجد كلها ولم يخص منها شيئًا، ونحوه قال الشافعى‏:‏ المسجد الجامع أحب إلى، وإن اعتكف فى غيره فمن الجمعة إلى الجمعة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقول أبى سعيد فى هذا الحديث‏:‏ ‏(‏حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين، وهى الليلة التى يخرج من صبيحتها من اعتكافه‏)‏ فليس معارضًا لما روى فى حديث أبى سعيد ‏(‏أن النبى عليه السلام خرج صبيحة عشرين فخطبهم‏)‏ والمعنى واحد، وذلك أنه قد روى جماعة هذا الحديث وقالوا فيه‏:‏ وهى الليلة التى يخرج فيها من اعتكافه‏.‏

وهذا هو الصحيح؛ لأن يوم عشرين معتكف فيه، وبه تتم العشرة الأيام؛ لأنه دخل فى أول الليل فيخرج فى أوله، فيكون معنى قوله‏:‏ ‏(‏فى ليلة إحدى وعشرين، وهى الليلة التى يخرج من صبيحتها‏)‏ يريد الصبيحة التى قبل ليلة إحدى وعشرين، وأضافها إلى الليلة كما تضاف أيضًا الصبيحة التى بعدها إلى الليلة، وكل متصل بشىء فهو مضاف إليه، سواء كان فيه أو بعده، وإن كانت العادة فى نسبة الصبيحة إلى الليلة التى قبلها؛ لتقديم الليل على النهار، فإن نسبة الشىء إلى ما بعده جائز بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 46‏]‏ فنسب الضحى إلى ما بعده، ويبين ذلك رواية من روى عن أبى سعيد ‏(‏فخرجنا صبيحة عشرين‏)‏ فلا إشكال فى هذا بعد بيان أبى سعيد أنها صبيحة عشرين وبعد قول من روى‏:‏ ‏(‏فى ليلة إحدى وعشرين، وهى الليلة التى يخرج فيها من الاعتكاف‏)‏، وسيأتى حكم خروج المعتكف فى بابه إن شاء الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وكان المسجد على عريش‏)‏ قال صاحب ‏(‏العين‏)‏‏:‏ العريش شبه الهودج، وعريش البيت سقفه، وقال الداودى‏:‏ كان الجريد قد بسط فوق الجذوع بلا طين، فكان المطر يسقط داخل المسجد، وكان عليه السلام قال لبنى النجار‏:‏ ‏(‏ثامنونى بحائطكم هذا‏.‏

فقالوا‏:‏ لا نطلب ثمنه إلا إلى الله‏.‏

فأخرج قبور المشركين، وقطع النخل التى كانت فيه، فجعل منها سوارى وجذوعًا وألقى الجريد عليها، فقيل له بعد ذلك‏:‏ يا رسول الله، ألا تبنيه‏؟‏ قال‏:‏ بل عريش كعريش موسى‏)‏‏.‏

باب الْحَائِضِ تُرَجِّلُ الْمُعْتَكِفِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يُصْغِى إِلَىَّ رَأْسَهُ، وَهُوَ مُجَاوِرٌ فِى الْمَسْجِدِ، فَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ‏.‏

قولها‏:‏ ‏(‏كان يصغى إلى رأسه‏)‏ يعنى أنه كان يدخل رأسه وكتفيه إل الحجرة فترجله، لئلا يخرج من المسجد ما وجد المقام فيه؛ لأن الحائض لا تدخل المسجد، وقد ترجم له باب ‏(‏المعتكف يدخل رأسه البيت للغسل‏)‏، وقال فيه‏:‏ ‏(‏كانت عائشة ترجل النبى عليه السلام وهى حائض، وهو معتكف فى المسجد، وهى فى حجرتها يناولها رأسه‏)‏، وفيه جواز ترجيل رأس المعتكف، وفى ذلك دليل على أن اليدين من المرأة ليستا بعورة، ولو كانتا عروة ما باشرته بهما فى اعتكافه، ويشهد لذلك أن المرأة تُنْهى عن لبس القفارين فى الإحرام، وتؤمر بستر ما عدا وجهها وكفيها، وهكذا حكمهما فى الصلاة، وفيه من الفقه أن الحائض طاهر إلا موضع النجاسة منها، والجوار والاعتكاف سواء عند مالك، حكمهما واحد إلا من جاور نهارًا بمكة، وانقلب ليلاً إلى أهله فلا صوم فيه، وله أن يطأ أهله، قال‏:‏ وجوار مكة أمر يتقرب به إلى الله كالرباط والصيام‏.‏

وقال عمرو بن دينار‏:‏ الاعتكاف والجوار واحد‏.‏

وقال عطاء‏:‏ هما مختلفان، كانت بيوت النبى عليه السلام فى المسجد، فلما اعتكف فى شهر رمضان خرج من بيوته إلى بطن المسجد فاعتكف فيه، والجوار بخلاف ذلك إن شاء الله جاور بباب المسجد أو فى جوفه إن شاء‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ الحرم كله مسجد يعتكف فى أيه شاء، وإن شاء فى منزله، إلا أنه لا يصلى إلا فى جماعة‏.‏

باب لا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلا لِحَاجَةٍ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُدْخِلُ عَلَىَّ رَأْسَهُ، وَهُوَ فِى الْمَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ، وَكَأن لا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلا لِحَاجَةٍ إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا‏.‏

قولها‏:‏ ‏(‏وكان يدخل البيت إلا لحاجة‏)‏ تريد الغائط والبول، وهكذا فسره الزهرى وهو راوى الحديث، ورواه مالك عن ابن شهاب، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة وقال فيه‏:‏ ‏(‏وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان‏)‏‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ لم يتابع أحد مالكًا فى هذا الحديث على ذكره عمرة، واضطرب فيه أصحاب ابن شهاب، فقالت طائفة عنه عن عروة، عن عائشة وكذلك رواه ابن مهدى عن مالك، وقالت طائفة‏:‏ عن عروة وعمرة جميعًا عن عائشة‏.‏

وكذلك رواه ابن وهب عن مالك، وأكثر الرواة عن مالك عن عروة، عن عمرة، فخطؤه فى ذكر عمرة‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ولهذه العلة والله أعلم لم يدخل البخارى حديث مالك، وإن كان فيه زيادة تفسير، لكنه ترجم للحديث بتلك الزيادة إذ كان ذلك عنده معنى الحديث‏.‏

وقولها‏:‏ ‏(‏وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان‏)‏ يدل أن المعتكف لا يشتغل بغير ملازمة المسجد للصلوات وتلاوة القرن وذكر الله، ولا يخرج إلا لما له إليه حاجة، وفى معنى ترجيل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم جواز استعمال الإنسان كل ما فيه صلاح بدنه من الغذاء وغيره، ومن جهة النظر أن المعتكف ناذر جاعل على نفسه المقام فى المسجد لطاعة الله، فواجب عليه الوفاء بذلك، وألا يشتغل عنه بما يلهيه، ولا يخرج إلا لضرورة كالمرض البيّن، والحيض فى النساء، وهذا فى معنى خروجه لحاجة الإنسان‏.‏

واختلفوا فى خروجه لما سوى ذلك، فروى عن النخعى والحسن البصرى وابن جبير أن له أن يشهد الجمعة، ويعود المرضى، ويتبع الجنائز، وذكر ابن الجهم عن مالك أنه يخرج إلى الجمعة، ويتم اعتكافه فى الجامع‏.‏

وقال عبد الملك‏:‏ إن خرج إلى الجمعة فسد اعتكافه‏.‏

ومنعت طائفة خروجه لعيادة المريض والجنائز، وهو قول عطاء، وعروة، والزهرى، ومالك، وأبى حنيفة، والشافعى، وأبى ثور‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ لا يخرج المعتكف إلا إلى الجمعة، والبول والغائط خاصة‏.‏

وقال مالك‏:‏ إن خرج المعتكف لعذر ضرورة مثل أن يموت أبوه أو ابنه، ولا يكون له من يقوم به، فإنه يبتدئ اعتكافه، والذين منعوا خروجه لغير حاجة الإنسان أسعد باتباع الحديث‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ قولها‏:‏ ‏(‏وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان‏)‏ فيه دلالة على منع المعتكف من العشاء فى بيته، والخروج من موضعه إلا لحاجة الإنسان لبول أو لغائط، قال ابن المنذر‏:‏ واختلفوا فى ذلك، فكان الحسن وقتادة يقولان‏:‏ له أن يشترط العشاء فى منزله‏.‏

وبه قال أحمد بن حنبل، وقال الشافعى‏:‏ إن كان المعتكف فى بيته فلا شىء عليه‏.‏

وقال أبو مجلز‏:‏ ليس له ذلك، وهو يشبه مذهب المدنين، وبه نقول؛ لأنه موافق للسنة، وذلك قول عائشة‏:‏ ‏(‏وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان‏)‏‏.‏

وفى العتبية لابن القاسم عن مالك فى الرجل يأتيه الطعام من منزله ليأكله فى المسجد، قال‏:‏ أرجو أن يكون خفيفًا، قال ابن المنذر‏:‏ وفيه دليل على أن من حلف لا يدخل دارًا، فأدخل بعض بدنه أنه غير حانث؛ لأن المعتكف ممنوع من الخروج من المسجد، ففى إدخاله رأسه لترجله عائشة دليل على إباحة ذلك، وعلى إباحة غسل المعتكف رأسه، ولو أراد المعتكف حلق رأسه فأخرجه إلى الحلاق ليحلقه، كان ذلك عندى فى معنى هذا، والله أعلم‏.‏

باب غَسْلِ الْمُعْتَكِفِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىُّ عليه السَّلام يُبَاشِرُنِى، وَأَنَا حَائِضٌ، وَكَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَأَغْسِلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ‏.‏

غسل رأس المعتكف جائز كترجيله على نص هذا الحديث، وغسل جسده فى معنى غسله رأسه، ولا أعلم فى ذلك خلافًا، وروى ابن وهب عن مالك قال‏:‏ لا بأس أن يخرج إلى غسل الجمعة إلى الموضع الذى يتوضأ فيه، ولا بأس أن يخرج يغتسل للحر يصيبه‏.‏

وقولها‏:‏ ‏(‏كان يباشرنى وأنا حائض‏)‏ تريد غير معتكفٍ؛ لأن المعتكف لا تجوز به المباشرة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِى الْمَسَاجِدِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏، وإنما ذكرت المباشرة فى هذا الحديث لتدل على جواز غسلها لرأسه وهى حائض، ويدل على طهارة بدن الحائض‏.‏

باب الاعْتِكَافِ لَيْلا

- فيه‏:‏ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِىَّ عليه السَّلام قَالَ‏:‏ كُنْتُ نَذَرْتُ فِى الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ‏)‏‏.‏

وترجم له باب‏:‏ ‏(‏إذا نذر فى الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم‏)‏، وباب‏:‏ ‏(‏من أجاز الاعتكاف بغير صيام‏)‏، فقياس قوله أن يجيزه ليلا، وسيأتى اختلاف العلماء فى ذلك فى بابه إن شاء الله‏.‏

وقال مالك‏:‏ من نذر اعتكاف ليلة لزمه يوم وليلة‏.‏

وقال سحنون‏:‏ لا شىء عليه إن نذر اعتكاف ليلة؛ لأنه لا صيام فى الليل، قال‏:‏ ومن نذر اعتكاف يوم لزمه يوم وليلة، ويدخل اعتكافه قبل غروب الشمس من ليلته، وإن دخل قبل الفجر لم يُجْزِهِ، وإن أضاف إليه الليلة المستقبلة‏.‏

وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أوف بنذرك‏)‏ محمول عند الفقهاء على الحض والندب لا على الوجوب؛ بدلالة أن الإسلام يهدم ما قبله، وقد حمل الطبرى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أوف بنذرك‏)‏ على الوجوب وقال‏:‏ إنما أمر النبى عليه السلام عمر بالوفاء فى الإسلام بنذر كان نذره فى الجاهلية إذ كان ذلك لله برا فى الإسلام، فالواجب أن يكون نظيره كل نذر نذره فى حال كفره مما هو طاعة فى الإسلام أن عليه الوفاء لله به فى حال إسلامه قياسًا على أمره عليه السلام عمر أن يفى بنذره الذى كان نذره فى الجاهلية فى حال إسلامه، وسيأتى فى ‏(‏كتاب الأيمان والنذور‏)‏ من حمل ذلك على الوجوب، ومن حمله على الندب من العلماء، وبيان أقوالهم، إن شاء الله‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه دليل على تأكيد الوفاء بالوعد؛ ألا ترى أنه أمره بالوفاء به وقد خرج من حال الجاهلية إلى حالة الإسلام، وإن كان عند الفقهاء أن ما كان فى الجاهلية من أيمان وطلاق وجميع العقود، فإن الإسلام يهدمها، ويسقط حرمتها‏.‏

باب اعْتِكَافِ النِّسَاءِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ كَانَ النَّبِىُّ عليه السَّلام يَعْتَكِفُ فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَكُنْتُ أَضْرِبُ لَهُ خِبَاءً فَيُصَلِّى الصُّبْحَ، ثُمَّ يَدْخُلُهُ، فَاسْتَأْذَنَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَضْرِبَ خِبَاءً، فَأَذِنَتْ لَهَا، فَضَرَبَتْ خِبَاءً فَلَمَّا رَأَتْهُ زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ، ضَرَبَتْ خِبَاءً آخَرَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم رَأَى الأخْبِيَةَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا هَذَا‏)‏‏؟‏ فَأُخْبِرَ، فَقَالَ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏أَالْبِرَّ تَقُولُونَ بِهِنَّ‏)‏‏؟‏ فَتَرَكَ الاعْتِكَافَ ذَلِكَ الشَّهْرَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ‏.‏

اختلف العلماء فى اعتكاف النساء، فقال مالك‏:‏ تعتكف المرأة فى مسجد الجماعة، ولا يعجبه أن تعتكف فى مسجد بيتها‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ تعتكف المرأة والعبد والمسافر حيث شاءوا؛ لأنه لا جمعة عليهم‏.‏

وقال الكوفيون‏:‏ لا تعتكف المرأة إلا فى مسجد بيتها، ولا تعتكف فى مسجد الجماعة، وذلك مكروه‏.‏

واحتجوا بأن النبى عليه السلام نقض اعتكافه إذ تبعه نساؤه، وهذا إنكار منه عليهن، قالوا‏:‏ وقد قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏صلاة المرأة فى بيتها أفضل‏)‏ فإذا منعت المرأة من المكتوبة فى المسجد مع وجوبها، فلأن تكون ممنوعة من اعتكاف هو نفل أولى، ولما كانت صلاة الرجل فى المسجد أفضلً، كان اعتكافه فيه أفضل‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وحجة مالك أن النبى عليه السلام لما أراد الاعتكاف أذن لعائشة وحفصة فى ذلك، وقد جاء هذا مبينًا فى باب‏:‏ ‏(‏من أراد أن يعتكف ثم بدا له أن يخرج‏)‏، ولو كان المسجد غير موضع اعتكافهن لما أباح ذلك لهن معه، ولا يجوز أن يظن به عليه السلام أنه نقض اعتكافه، ولكنه أخره تطييبًا لقلوبهن لئلا يحصل معتكفًا وهن غير معتكفات، وإنما فعل ذلك لأنه كره أن يكن مع الرجال فى مسجده عليه السلام؛ لأنه موضع الاجتماع، والوفود ترد عليه فيه، وهذا كما يستحب لهن أن يتعمدن الطواف فى الأوقاف الخالية، وكما يكره للشابات منهن الخروج للجمع والعياد، فإذا أردن أن يصلين الجمع لم يجز إلا فى الجامع مع الرجال‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ فى هذا الحديث إباحة اعتكاف النساء؛ لأنه عليه السلام أذن لعائشة وحفصة فى ذلك‏.‏

وفيه‏:‏ دليل أن المرأة إذا أرادت اعتكافًا لم تعتكف حتى تستأذن زوجها، ويدل على أن الأفضل والأعلى للنساء لزوم منازلهن، وترك الاعتكاف مع إباحته لهن؛ لأن ردهن ومنعهن منه يدل على أن لزوم منازلهن أفضل من الاعتكاف‏.‏

باب الأخْبِيَةِ فِى الْمَسْجِدِ

- وذكر حديث عَمْرَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِى أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ، إِذَا أَخْبِيَةٌ‏:‏ خِبَاءُ عَائِشَةَ، وَخِبَاءُ حَفْصَةَ، وَخِبَاءُ زَيْنَبَ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه من الفقه أن المعتكف يجب أن يجعل لنفسه فى المسجد مكانًا لمبيته، بحيث لا يضيق على المسلمين، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم فى الصحن إذا ضرب فيه خباءه، وفيه من الفقه أن المعتكف إذا أراد أن ينام فى المسجد أن يتنحى عن الناس؛ خوف أن يكون منه ما يؤذيهم من آفات البشر‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ وفيه دليل على إباحة ضرب الأخبية فى المسجد للمعتكفين‏.‏

وقال مالك فى المجموعة‏:‏ وليعتكف فى عجز المسجد ورحابه، فذلك الشأن فيه‏.‏

وقال الخطابى‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏آلبر تقولون بهن‏؟‏‏)‏ معناه‏:‏ آلبر تظنون بهن‏؟‏ قال الشاعر‏:‏

متى تقول القُلُصَ الرواسما *** يلحقن أم عاصم وعاصمًا

أى‏:‏ متى تظن القُلُص يلحقهما، ولذلك نصب القلص، قال الفراء‏:‏ والعرب تجعل ما بعد القول مرفوعًا على الحكاية فتقول‏:‏ عبد الله ذاهب، وقلت‏:‏ إنك قائم، هذا فى جميع القول إلا فى أتقول وحدها فى حروف الاستفهام، فإنهم ينزلونها منزلة أتظن، فيقولون‏:‏ أتقول إنك خارج، ومتى تقول‏:‏ إن عبد الله منطلق وأنشد‏:‏

أما الرحيل فدون بعد غد *** فمتى تقول الدار تجمعنا

بنصب الدار كأنه يقول‏:‏ فمتى تظن الدار تجمعنا، وأجاز سيبويه الرفع فى قوله‏:‏ الدار تجمعنا على الحكاية‏.‏

باب هَلْ يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ لِحَوَائِجِهِ إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ

- فيه‏:‏ صَفِيَّةَ، أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم تَزُورُهُ فِى اعْتِكَافِهِ فِى الْمَسْجِدِ فِى الْعَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِىُّ عليه السَّلام مَعَهَا يَقْلِبُهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلانِ مِنَ الأنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَى النَّبِىّ عليه السَّلام فَقَالَ لَهُمَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِىَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ‏)‏، فَقَالا‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّى خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِى قُلُوبِكُمَا شَيْئًا‏)‏‏.‏

وترجم له باب‏:‏ ‏(‏زيارة المرأة زوجها فى اعتكافه‏)‏، وذكر أن بيت صفية كان فى دار أسامة خارج المسجد، فخرج النبى عليه السلام معها‏.‏

لا خلاف فى جواز خروج المعتكف فيما لا غنى به عنه، وإنما اختلفوا فى المعتكف يدخل لحاجته تحت سقف، فأجاز ذلك الزهرى، ومالك، وأبو حنيفة، والشافعى، وروى عن ابن عمر، والنخعى، وعطاء أنه لا يدخل تحت سقف، وهو قول إسحاق، وقال الثورى والحسن بن حيى‏:‏ إن دخل بيتًا غير المسجد بطل اعتكافه، إلا أن يكون ممره فيه‏.‏

وكذلك اختلفوا فى اشتغاله بالأمور المباحة، فقال مالك فى الموطأ‏:‏ لا يأتى المعتكف حاجة ولا يخرج لها، ولا يعين أحدًا عليها، ولا يشتغل بتجارة، ولا بأس أن يأمر أهله ببيع ماله وصلاح ضيعته‏.‏

وقال أبو حنيفة والشافعى‏:‏ له أن يتحدث ويبيع ويشترى فى المسجد، ويتشاغل بما لا يأثم فيه، وليس عليه صمت‏.‏

وقال مالك‏:‏ لا يشترى إلا ما لا غنى له عنه من طعامه إذا لم يكن له من يكفيه‏.‏

وكره مالك والليث للمؤذن الصعود على المنارة قالا‏:‏ ولا يصعد على ظهر المسجد، وأجاز ذلك أبو حنيفة والشافعى، قالا‏:‏ ولو كانت المنارة خارج المسجد‏.‏

وكذلك اختلفوا فى حضوره مجالس العلم، فرخص فى ذلك كثير من العلماء، روى ذلك عن عطاء والأوزاعى والليث والشافعى‏.‏

وقال مالك‏:‏ لا يشتغل فى مجالس العلم، وكره أن يكتب العلم‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ طلب العلم من أفضل العمال بعد أداء الفرائض لانتشار الجهل ونقصان العلم، وذلك إذا أراد اللهَ به طَالبُهُ، وعمل البر لا ينافى الاعتكاف‏.‏

وقال غيره‏:‏ مجالس العلم شاغلة له عن اعتكافه، ومالك أسعد بأصله؛ لأنهم يوافقونه فى أن المعتكف لا يعود مريضًا ولا يشهد جنازة، وذلك من عمل البر، واحتج الطحاوى على جواز اشتغال المعتكف بالمباح من الأفعال بشغله عليه السلام فى اعتكافه بمحادثة صفية ومشيه معها إلى باب المسجد‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه من الفقه أنه لا بأس بزيارة أهل المعتكف له فى اعتكافه، وفيه أنه لا بأس أن يعمل فى اعتكافه بعض العمل الذى ليس من الاعتكاف من تشييع قاصد، وبر زائر، وإكرام مفتقر، وما كان فى معناه مما لا ينقطع به عن اعتكافه‏.‏

باب الاعْتِكَافِ وَخَروجَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم صَبِيحَةَ عِشْرِينَ

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، اعْتَكَفْنَا مَعَ النَّبِىّ عليه السَّلام الْعَشْرَ الأوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ، قَالَ‏:‏ فَخَرَجْنَا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ، قَالَ‏:‏ فَخَطَبَنَا النَّبِىّ عليه السَّلام صَبِيحَةَ عِشْرِينَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنِّى أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

قد تقدم فى أول ‏(‏كتاب الاعتكاف‏)‏ أن قول أبى سعيد فى هذا الحديث‏:‏ ‏(‏فخرجنا صبيحة عشرين‏)‏ أنه بيان للرواية التى فيها ‏(‏حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين، وهى الليلة التى يخرج من صبيحتها من اعتكافه‏)‏ أنه يريد الصبيحة التى قبل ليلة إحدى وعشرين، إذ قد يجوز إضافة الشىء إلى ما قبله وما بعده، وسيأتى حكم خروج المعتكف فى بابه بعد إن شاء الله‏.‏

باب اعْتِكَافِ الْمُسْتَحَاضَةِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتِ‏:‏ اعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ مُسْتَحَاضَةٌ، فَكَانَتْ تَرَى الْحُمْرَةَ وَالصُّفْرَةَ، فَرُبَّمَا وَضَعْنَا الطَّسْتَ تَحْتَهَا، وَهِىَ تُصَلِّى‏.‏

حكم المستحاضة كحكم الطاهر، ولا خلاف بين العلماء فى جواز اعتكافها، وفيه أنه لا بأس أن تعتكف مع الرجل زوجته إذا كان لها موضع تستتر فيه، وأما المعتكفة تحيض، فقال الزهرى، وربيعة، ومالك، والأوزاعى، وأبو حنيفة، والشافعى‏:‏ تخرج إلى دارها، فإذا طهرت فلترجع ثم تبنى على ما مضى من اعتكافها، وقال أبو قلابة‏:‏ تضرب خباءها على باب المسجد إذا حاضت‏.‏

باب هَلْ يَدْرَأُ الْمُعْتَكِفُ عَنْ نَفْسِهِ

- فيه‏:‏ صَفِيَّةَ أنها أَتَتِ النَّبِىَّ عليه السَّلام وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَلَمَّا رَجَعَتْ مَشَى مَعَهَا، فَأَبْصَرَهُ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَلَمَّا أَبْصَرَهُ دَعَاهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏تَعَالَ، هِىَ صَفِيَّةُ، وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ‏:‏ هَذِهِ صَفِيَّةُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّم‏)‏‏.‏

قُلْتُ لِسُفْيَانَ‏:‏ أَتَتْهُ لَيْلا‏؟‏ قَالَ‏:‏ وَهَلْ هُوَ إِلا لَيْلٌ‏؟‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه من الفقه تجنب مواضه التهم، وأن الإنسان إذا خشى أن يسبق إليه بظن سوء أن يكشف معنى ذلك الظن، ويبرئ نفسه من نزغات الشيطان الذى يوسوس بالشر فى القلوب، وإنما خشى عليه السلام أن يحدث على الرجل من سوء الظن فتنة، وربما زاغ بها فيأثم أو يرتد، وإن كان النبى عليه السلام منزهًا عند المؤمنين من مواضع التهم، ففى قول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنها صفية‏)‏ السنة الحسنة لأمته، أن يتمثلوا فعله ذلك فى البعد عن التهم ومواقف الريب، وكما جاز أن يدرأ المعتكف عن نفسه بالقول، كذلك يجوز أن يدرأ عن نفسه بالفعل من يريد أذاه، وليس المعتكف أكثر من المصلى، وقد أبيح له أن يدرأ عن نفسه فى صلاته من يمر بين يديه فكذلك المعتكف‏.‏

باب مَنْ خَرَجَ مِنِ اعْتِكَافِهِ عِنْدَ الصُّبْحِ

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، اعْتَكَفْنَا مَعَ النَّبِىّ عليه السَّلام الْعَشْرَ الأوْسَطَ، فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ نَقَلْنَا مَتَاعَنَا، فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى مُعْتَكَفِهِ، فَإِنِّى رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ ترجم البخارى لما سبق من ظاهر الأحاديث فى خروج المعتكف فى صبيحة عشرين، وبين لك أن الذى يظنه الناس من ظاهر الحديث من خروجه صبيحة عشرين، أنه ليس بخروج من الاعتكاف، وإنما خو خروج بالمتاع الذى كانوا يبيتون فيه، ويأكلون ويشربون فيه، إذ لا حاجة لهم بشىء من ذلك فى يوم عشرين الذى به ينقضى اعتكافهم للعشر الأوسط، فإذا انقضى اليوم بمغيب الشمس خرجوا ليلة إحدى وعشرين إلى بيوتهم خفافًا من أثقالهم، وقد بين ذلك أبو سعيد بقوله‏:‏ ‏(‏فلما كان صبيحة عشرين نقلنا متاعنا‏)‏ ولم يقل‏:‏ خرجنا من اعتكافنا، فأخبر الله تعالى نبيه أن الذى تطلب أمامك، فقال‏:‏ ‏(‏من كان اعتكف معى فليعتكف العشر الأواخر فإنى أُريت هذه الليلة‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

قال غيره‏:‏ وأجمع العلماء أنه من اعتكف العشر الأول أو الأوسط أنه يخرج إذا غابت الشمس من آخر يوم من اعتكافه، وفى إجماعهم على ذلك ما يوهن رواية من روى فى ليلة إحدى وعشرين أنه يخرج من صبحها أو فى صبيحتها، وأن الصواب رواية من روى يخرج فيها من اعتكافه، يعنى بعد الغروب، وإجماعهم يقضى على ما اختلفوا فيه من الخروج لمن اعتكف العشر الأواخر‏.‏

قال النخعى‏:‏ كانوا يستحبون للمعتكف أن يبيت ليلة الفطر حتى يكون غدوه منه إلى العيد، وهو قول أبى قلابة وأبى مجلز، وبه قال مالك، وحكاه عن أهل الفضل، وهو قول أحمد بن حنبل، وذكر ابن وهب عن الليث، عن عقيل، أن ابن شهاب كان لا يرى بأسًا أن ينصرف المعتكف إلى أهله إذا غابت الشمس ليلة الفطر، وهو قول الليث، والأوزاعى، والشافعى، وروى ابن القاسم عن مالك فى العتبية‏:‏ إن خرج من معتكفه ليلة الفطر أنه لا شىء عليه، وهذا هو الصحيح؛ لأن ليلة العيد ويم العيد ليس بموضع اعتكاف، والعشر يزول بزوال الشمس، والعشر يزول بزوال الشهر، والشهر ينقضى بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان، فدل هذا أن قول مالك الأول أنه استحباب ليتصل له نسك بنسك، لا أنه واجب‏.‏

باب الاعْتِكَافِ فِى شَوَّالٍ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ كَانَ النَّبِىّ عليه السَّلام يَعْتَكِفُ فِى كُلِّ رَمَضَانٍ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ دَخَلَ مَكَانَهُ الَّذِى اعْتَكَفَ فِيهِ، قَالَ‏:‏ فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ أَنْ تَعْتَكِفَ، فَأَذِنَ لَهَا فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً، فَسَمِعَتْ بِهَا حَفْصَةُ فَضَرَبَتْ قُبَّةً، فَسَمِعَتْ زَيْنَبُ بِهَا فَضَرَبَتْ قُبَّةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْغَدَاةِ رآها، فأمر بنزعها، فَلَمْ يَعْتَكِفْ فِى رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِى آخِرِ الْعَشْرِ مِنْ شَوَّالٍ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ الاعتكاف فى شوال وسائر السنة مباح لمن أراده‏.‏

وقال المهلب‏:‏ هذا الحديث الذى جاء بدخول المعتكف إلى اعتكافه إذا صلى الصبح يوهم أنه كان يدخل ذلك الحين الاعتكاف، وليس ذلك على ما يوهم ظاهره؛ لأنه عليه السلام إنما كان يدخل الخباء الذى يضرب له لينظر كيف ترتيب مكان نومه ومصلاه وحوائجه، ثم يخرج فى حوائجه، فإذا صلى المغرب دخل معتكفه، ولا يمكن أن يدخل بنية الاعتكاف ثم ينصرف عنه؛ لأنه لا يحل قطع الاعتكاف البتة بعد أن يدخل فيه، ولا يجوز أيضًا أن يقطع اعتكاف غيره لا سيما وقد كان عليه السلام أذن لعائشة وحفصة فى ذلك، ودليل آخر وهو أنه أن كان دخل للاعتكاف بعد صلاة الصبح فقد دخل فى بعض النهار، ولا يجزئه ذلك من اعتكافه حتى يثبت أنه دخل الخباء قبل انصداع الفجر بنية الاعتكاف، وذلك معدوم فى الروايات‏.‏

وقال غيره‏:‏ ويمكن أن يكون دخوله صبيحة عشرين متطوعًا بذلك، وكان اعتكافه كله تطوعًا، ومن زاد فى التطوع فهو أفضل، وإنما يقع التحريم فى النذر، ولو أن امرأ نذر اعتكاف العشر الأواخر ما لزمه أن يدخل إلا ليلة إحدى وعشرين عند الغروب، ويخرج صبيحة ثلاثين عند الغروب‏.‏

واتفق مالك، وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد أن المعتكف إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر أنه لا يدخل إلا عند غروب الشمس، وهو قول النخعى، وقال الأوزاعى بظاهر الحديث يصلى الصبح ثم يقوم إلى معتكفه، وما ذكرناه فى هذا الباب يرد قوله‏.‏

واختلفوا إذا نذره يومًا أو أيامًا، فقال مالك‏:‏ يدخل قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم، وقال الشافعى‏:‏ إذا أراد اعتكاف يوم دخل قبل طلوع الفجر، وخرج بعد غروب الشمس، خلاف قوله فى الشهر‏.‏

وقال أبو ثور‏:‏ إذا أراد أن يعتكف عشرة أيام دخل فى اعتكافه قبل طلوع الفجر، واليومُ والشهرُ عندهم سواء، ذهب هؤلاء إلى أن الليل لا يدخل فى الاعتكاف إلا أن يتقدمه اعتكاف النهار، وليس الليل بموضع للاعتكاف فلا يصح الابتداء به، وذهب الأولون إلى أن النهار تبع لليل على كل حال، فلذلك بدءوا بالليل، وهذا هو الصحيح فى هذه المسألة؛ لأن المعروف عند جميع الأمة تقدم الليل للنهار بكون الأهلة مواقيت للناس فى الشهور والعدد وغير ذلك، فأول الشهر ليلة، فكذلك كل عدد من الأيام وإن قل فإن أوله ليلة، ولا حجة لمن خالف هذا والله أعلم‏.‏

باب مَنْ لَمْ يَرَ عَلَيْهِ صَوْمًا إِذَا اعْتَكَفَ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أن عُمَر، قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى نَذَرْتُ فِى الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏؟‏ فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏أَوْفِ نَذْرَكَ فَاعْتَكَفَ لَيْلَةً‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ احتج بهذا الحديث من أجاز الاعتكاف بغير صوم، وروى ذلك عن على وابن مسعود قالا‏:‏ إن شاء صام المعتكف، وإن شاء لم يصم‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ الصوم لا يجب على المعتكف فرضًا؛ لأن الله لم يوجبه فى كتابه ولا رسوله، فلا يجب على المعتكف الصوم إلا أن يوجبه نذرًا، فيجب الوفاء بالنذر، وممن قال بهذا القول‏:‏ الحسن البصرى، وإليه ذهب الشافعى وأبو ثور والمزنى، واحتج المزنى بهذا الحديث وقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يوفى بنذره، وليس الليل موضع صيام، وأيضًا فإن رمضان لا يجوز أن ينوى به رمضان وغيره معًا، وذهبت طائفة إلى أن الاعتكاف من شرطه الصوم، روى ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وبه قال القاسم وعروة وابن شهاب، وهو قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، والأوزاعى، واحتج مالك فى الموطأ بقول القاسم ونافع قالا‏:‏ لا اعتكاف إلا بصوم لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ ‏(‏إلى‏)‏ الْمَسَاجِدِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ فإنما ذكر الله الاعتكاف مع الصيام، قال مالك‏:‏ وعلى ذلك الأمر عندنا، واحتج أهل المقالة الأولى فقالوا‏:‏ لو كان الاعتكاف لا يصح إلا بصوم؛ لم يكن لنهيه تعهالى عن المباشرة لأجل الاعتكاف معنى‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ فالجواب أن الله تعالى لما ذكر الوطء فى أول الآية وعلق حظره بالصوم فى النهار، عطف عليه حكم الاعتكاف، وذكر حظر الوطء معه؛ لأنه قد يصح فى وقت لا يصح فيه الصوم وهو زمن الليل‏.‏

ولو وطئ ليلا فسد اعتكافه فهذه فائدة ذكره للوطء بعد تقدم ذكره، وأما احتجاجهم بأن النبى صلى الله عليه وسلم قال لعمر فى الليلة‏:‏ ‏(‏أوف بنذرك‏)‏‏.‏

فالمعنى أنه أراد ليلة بيومها، وقد يعبر عن اليوم بالليلة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142‏]‏ فأراد تعالى الليالى بأيامها، وقد روى عمرو بن دينار عن ابن عمر‏:‏ ‏(‏أن عمر قال للنبى عليه السلام بالجعرانة‏:‏ إنى نذرت أن أعتكف يومًا وليلة‏)‏‏.‏

فهذا أصل الحديث، فنقل بعض الرواة ذكر الليلة وحدها، ويجوز للراوى نقل بعض ما سمع‏.‏

باب الاعْتِكَافِ فِى الْعَشْرِ الأوْسَطِ مِنْ رَمَضَان

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ كَانَ عليه السَّلام يَعْتَكِفُ فِى كُلِّ شهر رَمَضَانٍ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِى قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ‏.‏

يحتمل أن يكون إنما ضاعف اعتكافه فى العام الذى قبض فيه من أجل أنه علم بانقضاء أجله، فأراد أن يستكثر من عمل الخير؛ ليسن لأمته الاجتهاد فى العمل إذا بلغوا انقضاء العمر ليلقوا الله على خير أحوالهم‏.‏

وقد روى ابن المنذر حديثًا دل على غير هذا المعنى قال‏:‏ حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا ثابت، عن أبى رافع، عن أبى بن كعب ‏(‏أن النبى عليه السلام كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فسافر عامًا فلم يعتكف، فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين ليلة‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف فى كل رمضان‏)‏ فهذا يدل على أن الاعتكاف من السنن المؤكدة؛ لأنه مما واظب عليه النبى عليه السلام فينبغى للمؤمنين الاقتداء فى ذلك بنبيهم، وذكر ابن المنذر عن ابن شهاب أنه كان يقول‏:‏ عجبًا للمسلمين تركوا الاعتكاف، وإن النبى عليه السلام لم يتركه منذ دخل المدينة كل عام فى العشر الأواخر حتى قبضه الله‏.‏

وروى ابن نافع عن مالك قال‏:‏ ما زلت أفكر فى ترك الصحابة الاعتكاف، وقد اعتكف النبى حتى قبضه الله تعالى وهم أتبع الناس بآثاره، حتى أخذ بنفسى أنه كالوصال المنهى عنه، وأراهم إنما تركوه لشدته، وأن ليله ونهاره سواء، قال مالك‏:‏ ولم يبلغنى أن أحدًا من السلف اعتكف إلا أبو بكر بن عبد الرحمن‏.‏

واسمه المغيرة، وهو ابن أخى أبى جهل، وهو أحد فقهاء تابعى المدينة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ روينا عن عطاء الخرسانى أنه قال‏:‏ كان يقال‏:‏ مثل المعتكف كمثل عبد ألقى نفسه بين يدى ربه ثم قال‏:‏ رب لا أبرح حتى تغفر لى، رب لا أبرح حتى ترحمنى‏.‏

باب مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَخْرُجَ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام ذَكَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الأوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ، فَأَذِنَ لَهَا، وَسَأَلَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَسْتَأْذِنَ لَهَا، فَفَعَلَتْ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ زَيْنَبُ أَمَرَتْ بِبِنَاءٍ فَبُنِىَ لَهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى انْصَرَفَ إِلَى بِنَائِهِ فَبَصُرَ بِالأبْنِيَةِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا هَذَا‏)‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ بِنَاءُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَزَيْنَبَ، فَقَالَ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏أَالْبِرَّ أَرَدْنَ بِهَذَا‏؟‏ مَا أَنَا بِمُعْتَكِفٍ‏)‏، فَرَجَعَ، فَلَمَّا أَفْطَرَ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ يحتمل أن يكون النبى عليه السلام قد كان شرع فى الاعتكاف ودخل فيه، فلذلك قضاه لقول عائشة‏:‏ ‏(‏إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى انصرف إلى بنائه‏)‏‏.‏

فإن كان هذا فيكون قضاؤه واجبًا عليه‏.‏

وأهل العلم متفقون أنه لا يجب قضاء الاعتكاف إلا على من نواه وشرع فى عمله ثم قطعه لعذر، ويحتمل أن يكون عليه السلام لم يكن شرع فى الاعتكاف ولا بدأ به، وإنما كان انصرافه إلى بنائه بعد صلاة الصبح مطلعًا لأموره، والنظر فى إصلاحها غير معتقد الدخول فى الاعتكاف، ومن كان هكذا فله أن يرجع عن إمضاء نيته لأمر يراه، وقد قال العلماء‏:‏ إن من نوى اعتكافًا فله تركه قبل أن يدخل فيه، وعلى هذا الوجه تأوله البخارى، وترجم له باب من أراد أن يعتكف ثم بدا له أن يخرج، وعلى هذا يكون قضاؤه له تطوعًا‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه من الفقه أن من نوى شيئًا من الطاعات، ولم يبدأ بَعْدُ بالعمل فيه أن له تركه إن شاء تركًا واحدًا، وإن شاء تركًا مؤخرًا إلى وقت غيره، وقال غيره‏:‏ واعتكافه عليه السلام وإن كان تطوعًا فغير نكير أن يكون قضاه فى شوال من أجل أنه كان قد نوى أن يعلمه وإن لم يدخل فيه؛ لأنه كان أوفى الناس بما عاهد عليه، ذكر سنيد قال‏:‏ حدثنا معتمر بن سليمان، عن كهمس، عن معبد ابن ثابت فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 75‏]‏ الآية‏.‏

قال‏:‏ إنما هو شىء نووه فى أنفسهم ولم يتكلموا به، ألم تسمع إلى قوله فى الآية‏:‏ ‏(‏أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 78‏]‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏آلبر ترون بهن‏)‏ من الفقه أن من عُلم منه الرياء فى شىء من الطاعات فلا بأس أن يُقطع عليه فيه ومنعه منه، ألا ترى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏آلبر ترون بهن‏)‏‏.‏

يعنى أنهن إنما أردن الحظوة والمنزلة منه عليه السلام، فلذلك قطع عليهن ما أردنه وأخر ما أراده لنفسه‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أن للرجل منع زوجته وأمته وعبده من الاعتكاف فى الابتداء، كما منع نساءه الذين ضربوا الأبنية، وهو قول مالك والكوفيين والشافعى‏.‏

واختلفوا إذا أذن لهم فى ذلك فقال مالك‏:‏ لا يمنعهم، وقال الكوفيون‏:‏ لا يمنع زوجته إن أذن لها، ويمنع عبده إن أذن له، وقال الشافعى‏:‏ له منعهما جميعًا، وقال ابن شعبان كقول الشافعى‏:‏ له أن يمنعهما جميعًا، وأن أذن لهما ما لم يدخلا فيه، وهذا الحديث يدل على صحة هذا القول؛ لأن النبى عليه السلام قد كان أذن لعائشة وحفصة فى الاعتكاف ثم منعهما منه حين رأى ذلك، وفيه من الفقه‏:‏ أنه قد يستر عن الضرائر تفصيل بعضهن على بعض ولو بترك طاعة لله تستدرلاك بعد حين‏.‏

تم كتاب الاعتكاف والحمد لله رب العالمين يتلوه كتاب الحج إن شاء الله والله المعين‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

كِتَاب الْحَجِّ

وُجُوبِ الْحَجِّ وَفَضْلِهِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ‏:‏ كَانَ الْفَضْلُ بْن عباس رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ، فَقَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِى الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِى شَيْخًا كَبِيرًا لا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ‏)‏، وَذَلِكَ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ‏.‏

أجمع العلماء على أن على المرء فى عمره حجة واحدة، حجة الإسلام إذا كان مستطيعًا‏.‏

واختلفوا فى الاستطاعة، فذهبت طائفة إلى أن من قدر على الوصول إلى البيت ببدنه فقد لزمه فرض الحج وإن لم يجد راحلة، وهو بمنزلة من يجد الراحلة ولا يقدر على المشى، وهو قول ابن الزبير وعكرمة والضحاك، وبه قال مالك، وذهب الحسن البصرى ومجاهد وسعيد بن جبير إلى أن الاستطاعة‏:‏ الزاد والراحلة، وبه قال أبو حنيفة والثورى والشافعى وأحمد وإسحاق‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى هذا الحديث أن الاستطاعة لا تكون الزاد والراحلة؛ ألا ترى أن ما اعتذرت به هذه المرأة عن أبيها ليس بزاد ولا راحلة، وإنما كان ضعف جسمه، فثبت أن الاستطاعة شائعة كيفما وقعت وتمكنت‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ والاستطاعة فى لسان العرب القدرة، فإن جعلناها فى كل قادر جاز، سواء قدر ببدنه، أو ببدنه وماله، أو بماله، إلا أن تقوم دلالة‏.‏

وإن قلنا‏:‏ إن حقيقة الاستطاعة أن تكون صفة قائمة فى المستطيع كالقدرة والكلام والقيام والقعود، فينبغى أن تكون الاستطاعة صفة فيه تختصه وهذا لا يكون إلا لمن هو مستطيع ببدنه دون ماله‏.‏

فإن احتجوا بما روى عن الرسول أنه قال‏:‏ ‏(‏السبيل‏:‏ الزاد والراحلة‏)‏ فإن ابن معين وغيره قالوا‏:‏ روايه إبراهيم الخوزى، وهو ضعيف‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ لا يثبت الحديث الذى فيه ذكر الزاد والراحلة، وليس بمتصل، والآية عامة ليست مجملة ولا تفتقر إلى بيان، فكأنه تعالى كلف كل مستطيع على أى وجه قدر بمال أو ببدن، والدليل على ذلك قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا تحل الصدقة لغنى، ولا لذى مرة سوى‏)‏ فجعل صحة الجسم مساوية للغنى، فسقط قول من اعتبر الراحلة‏.‏

وقال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ لو أن رجلا كان فى موضع يمكنه المشى إلى الحج، وهو لا يملك راحلة لوجب عليه الحج؛ لأنه مستطيع إليه سبيلا‏.‏

وما روى عن السلف فى ذلك أن السبيل‏:‏ الزاد والراحلة‏:‏ فإنما أرادوا التغليظ على من ملك هذا المقدار ولم يحج؛ لأنهم ذكروا أقل الأملاك التى يبلغ بها الإنسان إلى الحج، فإن قيل‏:‏ فإنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فوجبت فيها الراحلة، أصله الجهاد، قيل‏:‏ لا فرق بينهما، وعندنا أن من تعين عليه فرض الجهاد وهو قادر ببدنه على المشى، فليست الراحلة شرطًا فى وجوبه عليه؛ لأنه منكسر بالهجرة، وسيأتى بعض معانى هذا الحديث فى باب‏:‏ الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة من هذا الكتاب إن شاء الله‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه من الفقه جواز الارتداف لسادة الناس ورؤسائهم، ولا سيما فى الحج لتزاحم الناس، ومشقة الرجالة، ولأن الراكب فيه أفضل، ولا خلاف بين العلماء فى جواز ركوب نفسين على دابة إذا أطاقت الدابة ذلك، وفى نظر الفضل إلى المرأة مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من شهوات النساء، وفيه أن على العالم أن يغير من المنكر ما يمكنه إذا رآه، وسيأتى بقية القول فى قصة الفضل بن عباس فى كتاب الاستئذان فى باب قوله‏:‏ ‏(‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وذكر ابن المنذر قال‏:‏ حدثنا محمد بن إسماعيل الصايغ، حدثنا عفان، حدثنا سكين بن عبد العزيز قال‏:‏ حدثنى أبى قال‏:‏ سمعت ابن عباس يقول‏:‏ ‏(‏كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن، فقال‏:‏ يا ابن أخى هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له‏)‏‏.‏

وقال عكرمة والضحاك ومجاهد فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ قالوا‏:‏ من كفر بالله واليوم الآخر‏.‏

وقال الحسن‏:‏ من كفر بالحج فلم يره واجبًا، وقال سعيد بن جبير‏:‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ لو أن الناس تركوا الحج لقاتلتهم عليه كما نقاتلهم على الصلاة والزكاة‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 27‏]‏

‏{‏فِجَاجًا‏}‏‏:‏ الطُّرُقُ الْوَاسِعَة‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، رَأَيْتُ النَّبِىّ عليه السَّلام يَرْكَبُ رَاحِلَتَهُ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ يُهِلُّ حَتَّى تَسْتَوِىَ بِهِ قَائِمَةً‏.‏

- وفيه‏:‏ جَابِر، أَنَّ إِهْلالَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ‏.‏

ورَوَاهُ أَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ‏.‏

ذكر ابن المنذر عن ابن عباس فى هذه الآية‏:‏ هم المشاة والركبان على كل ضامر من الإبل، وروى محمد بن كعب عن ابن عباس قال‏:‏ ما فاتنى شىء أشد علىَّ إلا أن أكون حججت ماشيًا؛ لأن الله تعالى يقول‏:‏ ‏(‏يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 27‏]‏ فبدأ بالرجال قبل الركبان، وذكر إسماعيل بن إسحاق عن مجاهد قال‏:‏ أهبط آدم بالهند، فحج على قدميه البيت أربعين حجة، وعن ابن أبى نجيح، عن مجاهد أن إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام، حجا ماشيين، وحج النبى عليه السلام راكبًا، ولذلك ذكر حديث ابن عمر وجابر فى هذا الباب، وذلك كله مباح، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏]‏‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ فى قوله‏:‏ ‏(‏يَأْتُوكَ رِجَالاً ‏(‏دليل قاطع لمالك أن الراحلة ليست من شرط السبيل، والمخالفون يزعمون أن الحج لا يجب على الرجالة، وهذا خلاف الآية‏.‏

واختلفوا فى تأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 28‏]‏ فروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد أنها التجارة، وزاد مجاهد‏:‏ وما يرضاه الله من أمر الدنيا والآخرة، وقال أبو جعفر‏:‏ هى المغفرة، واختاره إسماعيل بن إسحاق، وسيأتى الاختلاف فى بدء إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا فى موضعه إن شاء الله‏.‏

باب الْحَجِّ عَلَى الرَّحْلِ

وقالت عَائِشَةَ‏:‏ أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام بَعَثَ مَعَهَا أَخَاهَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، فَأَعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، وَحَمَلَهَا عَلَى قَتَبٍ‏.‏

- وَقَالَ عُمَرُ‏:‏ شُدُّوا الرِّحَالَ فِى الْحَجِّ، فَإِنَّهُ أَحَدُ الْجِهَادَيْنِ‏.‏

وَحَجَّ أَنَسٌ عَلَى رَحْلٍ، وَلَمْ يَكُنْ شَحِيحًا، وَحَدَّثَ أَنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام حَجَّ عَلَى رَحْلٍ، وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْتَمَرْتُمْ وَلَمْ أَعْتَمِرْ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَا عَبْدَالرَّحْمَنِ، اذْهَبْ بِأُخْتِكَ، فَأَعْمِرْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ‏)‏، فَأَحْقَبَهَا عَلَى نَاقَةٍ، فَاعْتَمَرَتْ‏.‏

فى هذا الباب‏:‏ فضل الحج على الرواحل، قال ابن المنذر‏:‏ اختلف العلماء هل المشى فى الحج أفضل أو الركوب، فقال مالك‏:‏ الركوب أحب إلىَّ من المشى، وبه قال الشافعى؛ لأن النبى عليه السلام حج راكبًا، ولفضل النفقة فى الحج، ولأنه إذا كان مستريحًا كان أقوى له على الدعاء والابتهال والتضرع، وروى عبد الله بن بريدة عن أبيه، أن النبى عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏النفقة فى الحج كالنفقة فى سبيل الله سبعمائة ضعف‏)‏‏.‏

وكان حسين بن على يمشى فى الحج، وفعل ذلك ابن جريج والثورى، وقال إسحاق‏:‏ المشى أفضل، وهو محجوج بفعل النبى عليه السلام‏.‏

باب فَضْلِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، سُئِلَ النَّبِىُّ عليه السَّلام أَىُّ الأعْمَالِ أَفْضَلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ‏)‏، قِيلَ‏:‏ ثُمَّ مَاذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏جِهَادٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ‏)‏، قِيلَ‏:‏ ثُمَّ مَاذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏حَجٌّ مَبْرُورٌ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلا نُجَاهِدُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏لا، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إنما جعل الجهاد فى هذا الحديث أفضل من الحج؛ لأن ذلك كان فى أول الإسلام وقلَّته، وكان الجهاد فرضًا متعينًا على كل أحد، فأما إذ ظهر الإسلام وفشا، وصار الجهاد من فروض الكفاية على من قام به، فالحج حينئذ أفضل؛ ألا ترى قوله لعائشة‏:‏ ‏(‏إن أفضل جهادكن الحج‏)‏ لما لم يكنّ من أهل القتال والجهاد للمشركين، فإن حّلَّ العدو ببلدة واحتيج إلى دفعه، وكان له ظهور وقوة وخيف منه؛ توجه فرض الجهاد على العيان، وكان أفضل من الحج والله أعلم‏.‏

وقال المهلب‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏لكن أفضل الجهاد حج مبرور‏)‏‏.‏

يفسر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏ أنه ليس على الفرض لملازمة البيوت، كما زعم من أراد تنقص عائشة فى خروجها إلى العراق للإصلاح بين المسلمين، وهذا الحديث يخرج الآية عما تأولوها؛ لأنه قال‏:‏ ‏(‏لكن أفضل الجهاد حج مبرور‏)‏ فدل هذا أن لهن جهادًا غير جهاد الحج، والحج أفضل منه‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن النساء لا يحل لهن الجهاد، قيل‏:‏ قد قالت حفصة‏:‏ ‏(‏قدمت علينا امرأة غزت مع النبى عليه السلام ست غزوات، وقالت‏:‏ كنا نداوى الكلمى، ونقوم على المرضى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد الغزو أسهم بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها غزا بها‏)‏‏.‏

باب فَرْضِ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ

- فيه‏:‏ زَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ أَتَى عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ فِى مَنْزِلِهِ، وَلَهُ فُسْطَاطٌ وَسُرَادِقٌ، فَسَأَلْتُهُ مِنْ أَيْنَ يَجُوزُ أَنْ أَعْتَمِرَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَلأهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ‏.‏

أجمع أئمة الفتوى أن المواقيت فى الحج والعمرة سنة واجبة، وقالوا‏:‏ هى توسعة ورخصة يتمتع المرء يحلها حتى يبلغها، ولا أعلم أحدًا قال‏:‏ إن المواقيت من فروض الحج‏.‏

وقول ابن عمر‏:‏ ‏(‏فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ يريد وَقَّتَها وَبَّيَنها، وهذا الباب رد على عطاء والنخعى والحسن، فإنهم زعموا أنه لا شىء على من ترك الميقات ولم يُحْرم وهو يريد الحج والعمرة، وهذا شذوذ من القول، وقال مالك وأبو حنيفة والشافعى‏:‏ إنه يرجع من مكة إلى الميقات، واختلفوا إذا رجع هل عليه دم أم لا‏؟‏ فقال مالك، ورواية عن الثورى‏:‏ لا يسقط عنه الدم برجوعه إليه محرمًا، وهو قول ابن المبارك‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ إن رجع إليه فلبى فلا دم عليه، وإن لم يلب فعليه الدم، وقال الثورى وأبو يوسف ومحمد والشافعى‏:‏ لا دم عليه إذا رجع إل الميقات بعد إحرامه على كل وجه‏.‏

باب قَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، قَالَ‏:‏ كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلا يَتَزَوَّدُونَ، وَيَقُولُونَ‏:‏ نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏(‏وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى‏}‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه من الفقه أن ترك سؤال الناس من التقوى؛ ألا ترى أن الله مدح قومًا فقال‏:‏ ‏(‏لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 273‏]‏، وكذلك معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ أى تزودوا فلا تؤذوا الناس بسؤالكم إياهم، واتقوا الإثم فى أذاهم بذلك‏.‏

وفيه‏:‏ أن التوكل لا يكون مع السؤال، وإنما التوكل على الله دون استعانة بأحد فى شئ، ويبين ذلك قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏يدخل الجنة سبعون ألفًا بغير حساب، وهم الذين لا يسترقون، ولا يكتتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون‏)‏‏.‏

فهذه أسباب التوكل وصفاته‏.‏

وقال الطحاوى‏:‏ لما كان التزود فيه ترك المسألة النهى عنها فى غير الحج، وكانت حرامًا على الأغنياء قبل الحج؛ كانت فى الحج أوكد حرمة، وقال سعيد بن جبير فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَزَوَّدُوا ‏(‏قال‏:‏ الكعك والسويق، وليس هذا من سعيد على أن هذه الأصناف من الأزواد هى التى أبيحت فى الحج دون ما سواها، ولكنه على إفهام السائل أن المراد هو الزاد الذى هو قوام الأبدان، لا على التزود من الأعمال، ثم أتبع ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ‏(‏فكان هذا والله أعلم أن من التقوى ترك التعرض لحال من الأحوال التى يخرج أهلها إلى المسألة المحرمة عليهم‏.‏

باب مُهَلِّ أَهْلِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاس، إِنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ، وَلأهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلأهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ، فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ‏.‏

وترجم له باب‏:‏ ‏(‏مهل أهل الشام‏)‏، وباب‏:‏ ‏(‏مهل من كان دون المواقيت‏)‏، وباب‏:‏ ‏(‏مهل أهل اليمن‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ والعلماء متفقون على أن مهل مكة للحج من مكة، كما وقت لهم النبى عليه السلام فاللازم على ظاهر هذا الخبر أن لا يخرج أهل مكة عن بيوت مكة إلا محرمين، وسنتهم ألا طواف ولا سعى عليهم، وإنما ذلك على من يقدم مكة من غير أهلها‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ يجمع هذا الحديث أبوابًا من السنن، منها‏:‏ أن هذه المواقيت لكل من أتى عليها من غير اهلها، فإذا جاء المدنى من الشام على طريق الساحل أحرم من الجحفة، وإذا أتى اليمانى على ذى الحليفة احرم منها، وإذا أتى النجدى من تهامة أحرم من يلملم، وكل من مر بميقات بلدة احرم منه، ومنها‏:‏ أن ميقات كل مَنْ منزله دون الميقات مما يلى مكة مِنْ منزله ذلك‏.‏

ومنها‏:‏ أن أهل مكة ميقاتهم مكة، ومنها‏:‏ أن هذه المواقيت إنما يلزم منها ومن يريد حجا أو عمرة، ولا يلزم الإحرام منها من لا يريد الحج والعمرة، ولو مر مدنى بذى الحليفة ولا يريد حجا ولا عمرة فسار حتى قرب من الحرم أراد الحج والعمرة فإنه يحرم من حيث حضرته نية الحج أو العمرة، ولا يجب عليه ما وجب على من مر بميقاته وهو يريد الحج والعمرة ولم يحرم منه، واحرم من وراء ذلك مما يلى مكة‏.‏

وعلى هذا عامة العلماء إلا أحمد وإسحاق فإنهما قالا‏:‏ يرجع إلى ذى الحليفة ويحرم، والقول الأول أبين؛ لدلالة حديث ابن عباس على ذلك؛ ولأن ابن عمر أحرم من الفرع، وهو بعد الميقات، وهو راوى حديث المواقيت، ومحال أن يتعدى ذلك مع علمه به ويوجب على نفسه دمًا، هذا ما لا يظنه عالم‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ يحمل فعل ابن عمر أنه مر بميقاته لا يريد إحرامًا، ثم بدا له أو جاء إلى الفرع من مكة أو غيرها، ثم بدا له فى الإحرام‏.‏

واختلفوا إذا مر بذى الحليفة وهو يريد الحج والعمرة ولم يحرم منها، وأحرم من الجحفة، فقال مالك‏:‏ عليه دم، وهو قول الليث والثورى والشافعى، واختلف فى ذلك أصحاب مالك، فمنهم من أوجب الدم، ومنهم من لم يوجبه، ورخص فى ذلك الكوفيون والأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وقالوا‏:‏ لا شىء عليه‏.‏

وروى عن عائشة انها كانت إذا أرادت العمرة أحرمت من الجحفة، وإن أرادت الحج أحرمت من ذى الحليفة‏.‏

قال ابن المواز‏:‏ ويدل امر النبى عليه السلام عائشة أن تخرج من الحرم وتحرم بعمرة، على أن مكة ليست بميقات يحرم منها للعمرة، فبان بهذا أن معنى قوله عليه السلام فى حديث ابن عباس‏:‏ ‏(‏حتى أهل مكة يهلون من مكة‏)‏ أنه أراد الإحرام بالحج فقط، دون الإحرام بالعمرة؛ إذ لو كان على ظاهر الحديث لكان ميقات أهل مكة للحج والعمرة مكة، كما كان لأهل المواقيت ولمن دونها مما يلى الحرم الإحرام من مواقيتهم، فلما امر عائشة أن تحرم من التنعيم دل أن إهلال أهل مكة من مكة إنما هو بالحج دون العمرة‏.‏

قال غيره‏:‏ وأئمة الفتيا متفقون على أن المكى إذا أراد العمرة أنه لابد له من الخروج إلى الحِلِّ يهل منه؛ لأنه لابد له فى عمرته من الجمع بين الحل والحرم، وليس ذلك على الحاج المكى؛ لأنه خارج فى حجه إلى عرفات، وهى الحل، وشذ ابن الماجشون فى مسألة من هذا الباب فقال‏:‏ لا يقرن المكى من مكة قياسًا على المعتمر، وخالفه مالك وجميع أصحابه فقالوا‏:‏ إنه يقرن من مكة؛ لأنه خارج فى حجه إلى الحل عرفات، وقد ذكر ابن المواز عن مالك أنه لا يقرن المكى إلا بمكة؛ لأنه خارج فى حجه من الحل، كقول ابن الماجشون‏.‏

فإن اعتمر من مكة ولم يخرج إلى الحل للإحرام حتى طاف وسعى، ففيها قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن عليه دمًا لترك الميقات، وعمرته تامة، وهذا قول الكوفيين وأبى ثور، وأحد قول الشافعى، والقول الثانى‏:‏ أن ذلك لا يجزئه حتى يخرج من الحرم ثم يطوف ويسعى، ويقصر أو يحلق، ولا شىء عليه، ولو كان حلق أهراق دمًا، هذا قول الشافعى الآخر، وهو قول مالك وأصحابه‏.‏

قال مالك‏:‏ وما رأيت أحدًا أحرم بعمرة من الحرم، ولا يحرم أحد بعمرة من مكة، ولا تصح العمرة عند جميع العلماء إلا فى الحل المكى أو غيره‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وهذا أشبه‏.‏

وحكى الثورى عن عطاء أنه من أهل بعمرة أنه لا شىء عليه، قال سفيان‏:‏ ونحن نقول‏:‏ إذا أهل بها لزمته ويخرج إلى الميقات، وقال ابن المنذر‏:‏ المحرم بعمرة من مكة تارك لميقاته، فعليه أن يخرج من الحرم ليكون قد رجع إلى ميقاته، كما نأمر من جاز ميقاته أن يرجع ما لم يطف بالبيت، فإن لم يخرج إلى الحل حتى يفرغ من نسكه فعليه دم، كما يكون ذلك على من ترك ميقاته حتى فرغ من نسكه، وأما إذا كان منزل الرجل بين مكة والمواقيت، فجمهور الفقهاء قائلون بحديث ابن عباس أنه يحجرم من موضعه بالحج، وهو ميقاته، وإن لم يحرم منه فهو كمن ترك ميقاته، فعليه أن يرجع، فإن لم يفعل فعليه دم، قال مجاهد‏:‏ ميقاته من مكة‏.‏

وهذا خلاف قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ‏)‏ قال ابن المنذر‏:‏ وفى حديث ابن عباس إثباته عليه السلام يلملم ميقاتًا لأهل اليمن؛ لأن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏ويزعمون أن النبى عليه السلام قال‏:‏ وهل أعل اليمن من يلملم‏)‏ فأسنده ابن عباس‏.‏

باب مِيقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلا يُهِلُّوا قَبْلَ ذِى الْحُلَيْفَةِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِى الْحُلَيْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّأْمِ مِنَ الْجُحْفَةِ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ‏)‏‏.‏

قَالَ عَبْدُاللَّهِ‏:‏ وَبَلَغَنِى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ‏)‏‏.‏

وترجم له باب‏:‏ ‏(‏مهل أهل نجد‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ أمر النبى عليه السلام أهل المدينة وأهل الشام وأهل نجد واليمن أن يهلوا من المواضع التى حَدَّها، وأحرم عليه السلام من الميقات الذى بينه لأهل المدينة، وترك أن يحرم من منزله، وعمل بذلك أصحابه وعوام أهل العلم، وغير جائز أن يكون فعل أعلى من فعله، أو عمل أفضل من عمله، ولقد سئل مالك عن هذه المسألة فتلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 63‏]‏ الآية‏.‏

وقد أجمع أهل العلم على أنه من أحرم قبل أن يأتى الميقات أنه محرم، غير أن طائفة من السلف كرهت ذلك، واستحبه آخرون، فممن رأى ذلك ابن عمر أحرم من إيلياء، وسئل على وابن مسعود عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏ فقالا‏:‏ أن تحرم من دوبرة أهلك‏.‏

وأجاز ذلك علقمة والأسود، وهو قول أبى حنيفة، والثورى، والشافعى‏.‏

وكره الإحرام قبل المواقيت عمر بن الخطاب، وأنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة، وأنكر عثمان بن عفان على عبد الله بن عامر إحرامه قبل الميقات، وهو قول عطاء، والحسن، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وقال أحمد‏:‏ المواقيت أفضل؛ لأنها سنة النبى عليه السلام قال إسماعيل القاضى‏:‏ وإنما كرهوا ذلك والله أعلم لئلا يضيق المرء على نفسه ما وسع الله عليه، وأن يتعرض لما لا يؤمن أن يحدث فى إحرامه، وكلهم ألزمه الإحرام فإنه زاد ولم ينقص‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وأخذ قوم بحديث ابن عمر وابن عباس، وذهبوا إلى أن أهل البعراق لا ميقات لهم فى الإحرام كميقات سائر أهل البلدان؛ وإنما يلهون من حيث مروا عليه من هذه المواقيت المؤقتة فى حديث ابن عباس وابن عمر‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وسأذكر فى الباب بعد هذا اختلاف الناس فى ميقات أهل العراق إن شاء الله‏.‏

باب ذَاتُ عِرْقٍ لأهْلِ الْعِرَاقِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ‏:‏ لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ، أَتَوْا عُمَرَ، فَقَالُوا‏:‏ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّ لأهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَهُوَ جَوْرٌ عن طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ ذلك عَلَيْنَا، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ، فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ‏)‏‏.‏

اختلف العلماء فى ميقات أهل العراق، فقال مالك والكوفيون، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور‏:‏ ميقاتهم ذات عرق، وقالت طائفة‏:‏ ميقاتهم العقيق، روى ذلك عن أنس بن مالك، واستحبه الشافعى‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ والإحرام من العقيق أفضل، ومن ذات عرق يجزئ، وكان القاسم بن عبد الرحمن، وخصيف يحرمان من الربذة، وهو قول الحسن بن صالح، ولولا سنة عمر لكان هذا أشبه بالنظر؛ لأن المعنى عندهم فى ذات عرق أنه بإزاء قرن، والربذة بإزاء ذى الحليفة، غير أن عمر لما سن ذات عرق وتبعه عليه من حج من أهل العراق، فمر بذلك العمل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وعوام أهل العلم إلى اليوم كان أولى بالاتباع‏.‏

واختلفوا فيمن وَقَّتَ لهم ذات عرق، فقالت طائفة‏:‏ وقته عمر بن الخطاب، واحتجوا بهذا الحديث، وهو قول ابن عباس وابن عمر وعطاء، وقال آخرون‏:‏ بل وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم العقيق وذات عرق، كما وقت لأهل الشام بالجحفة، والشام كلها يومئذ دار كفر كما كانت العراق، فوقت المواقيت لأهل النواحى؛ لأنه علم أنه سيفتح الله على أمته الشام والعراق وغيرها من البلاد لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها‏)‏‏.‏

واحتجوا بما رواه أبو داود قال‏:‏ حدثنا هشام بن بهرام، حدثنا المعافى، حدثنا أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏وَقَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل العراق ذات عرق‏)‏‏.‏

وهو قول جابر بن عبد الله، وروى الثورى عن يزيد بن أبى زياد، عن محمد بن على، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق‏)‏‏.‏

وهذا اختلاف، قال ابن المنذر‏:‏ ولا يثبت فى ذلك عن الرسول سنة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى قول عمر‏:‏ ‏(‏فانظروا حذوها من طريقكم‏)‏ إباحة القياس على السنن المعروفة الحكم بالتشبيه والتمثيل، يدل على ذلك ما رواه عبد العزيز بن أبى رواد، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال‏:‏ لما وقت قرن لأهل نجد، قال عمر‏:‏ قيسوا من نحو العراق كنحو قرن‏.‏

فاختلفوا فى القياس، فقال بعضهم‏:‏ ذات عرق، وقال بعضهم‏:‏ بطن العقيق، قال ابن عمر‏:‏ فقاس الناس ذلك‏.‏

والناس حينئذ هم علماء الصحابة الذين هم حجة على من خالفهم‏.‏

وقولهم لعمر‏:‏ ‏(‏وهو جَوْر عن طريقنا‏)‏ يعنون هو منحرف ومنعدل عنه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 9‏]‏ يعنى غير قاصد‏.‏

قال الراجز‏:‏ فجار عن نهج الطريق القاصد ومنه جار السلطان إذا عدل فى حكمه عن الحق إلى الباطل‏.‏

باب الصلاة بذِى الْحُلَيْفَةِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ بِذِى الْحُلَيْفَةِ، فَصَلَّى بِهَا‏.‏

وَكَانَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ‏.‏

الصلاة بذى الحليفة ليست من سنن الحج، وإنما هو موضع الإهلال لأهل المدينة، وقد أرى النبى عليه السلام فى النوم وهو يعرس فيها قيل له‏:‏ إنك ببطحاء مباركة، فلذلك كان عليه السلام يصلى فيها تبركًا بها، ويجعلها عند رجوعه من مكة موضع مبيته ليبكر منها إلى المدينة، ويدخلها فى صدر النهار والله أعلم‏.‏

باب خُرُوجِ النَّبِىِّ عليه السَّلام عَلَى طَرِيقِ الشَّجَرَةِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّ النَّبِىّ عليه السَّلام كَانَ يَخْرُجُ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ، وَيَدْخُلُ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُصَلِّى فِى مسْجِدِ الشَّجَرَةِ، وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِى الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِى، وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ‏.‏

وقال المؤلف‏:‏ ليس خروجه على طريق الشجرة ورجوعه من طريق المعرس من سنن الحج‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما فعل ذلك والله أعلم ليكثر عدد المسلمين فى أعين المنافقين وأهل الشرك كما فعل فى العيدين، ومبيته عليه السلام بذى الحليفة عند رجوعه من الحج على قرب من الوطن لتتقدم أخبار القادمين على أهليهم، فتأخذ المرأة على نفسها، وهو فى معنى كراهيته عليه السلام للرجل أن يطرق أهله ليلا من سفره والله أعلم‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِىِّ عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏الْعَقِيقُ وَادٍ مُبَارَكٌ‏)‏

- فيه‏:‏ عُمَرَ، سَمِعْتُ النَّبِىَّ عليه السَّلام بِوَادِى الْعَقِيقِ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏أَتَانِى اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّى، فَقَالَ‏:‏ صَلِّ فِى هَذَا الْوَادِى الْمُبَارَكِ، وَقُلْ‏:‏ عُمْرَةً فِى حَجَّةٍ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أنّ النَّبِىّ عليه السَّلام رُئِىَ وَهُوَ فِى مُعَرَّسٍ بِذِى الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِى، قِيلَ لَهُ‏:‏ إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ، وَقَدْ أَنَاخَ بِنَا سَالِمٌ، يَتَوَخَّى بِالْمُنَاخِ الَّذِى كَانَ عَبْدُاللَّهِ يُنِيخُ، يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَسْفَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ الَّذِى بِبَطْنِ الْوَادِى، بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ وَسَطٌ مِنْ ذَلِكَ‏.‏

قال المهلب‏:‏ بهذه الرؤيا حكم النبى عليه السلام بنسخ ما كان فى الجاهلية من تحريم العمرة فى أشهر الحج؛ لأن رؤيا الأنبياء وحى، فأمر أصحابه الذين أهلوا بالحج من ذى الحليفة ممن لم يكن معه هدى أن يفسخوه فى عمرة، فعظم ذلك عليهم لبقائه هو على حجه من أجل ما كان ساق من الهدى، وما كان استشعره من التلبيد لرأسه، وفيه أن السنن والفرائض قد يخبر عنها بخبر واحد فيما اتفقا فيه، وإن كان حكمها يختلف فى غيره، فلما كان الإحرام بالحج والعمرة واحدًا أخبر الله عنها فى هذه الرؤيا بذلك فقال‏:‏ ‏(‏عمرة فى حجة‏)‏ أى إحرامكم تدخل فيه العمرة والحجة متتاليًا ومفترقًا‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وقد احتج الكوفيون للقِران أنه أفضل من الإفراد، وأنه الذى أمر به النبى عليه السلام أن نفعله بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏وقل عمرة فى حجة‏)‏‏.‏

فالجواب أنه يحتمل أن يريد أحد أمرين‏:‏ إما أن يحرم بالعمرة إذا فرغ من حجته قبل أن يرجع إلى منزله، فكأنه قال‏:‏ إذا خرجت وحججت فقل‏:‏ لبيك بعمرة، وتكون فى حجتك التى تحج فيها‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ويؤيد هذا التأويل ما رواه البخارى فى هذا الحديث فى كتاب الاعتصام ‏(‏وقل‏:‏ عمرة وحجة‏)‏ ففصل بينهما بالواو‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ ويحتمل أن يريد أن أفعال العمرة هى بعض أفعال الحج، فكأنه أوقع أفعال العمرة فى فعل هو بعض أفعال الحج، وقال غيره‏:‏ معناه‏:‏ ‏(‏قل‏:‏ عمرة فى حجة‏)‏ أى قل ذلك لأصحابك، أى أعلمهم أن القِران جائز، وأنه من سنن الحج‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وهذا نظير قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏دخلت العمرة فى الحج إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ومعنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أتانى آت من ربى فقال‏:‏ صل فى هذا الوادى المبارك‏)‏‏.‏

فهو إعلام منه عليه السلام بفضل المكان لا إيجاب الصلاة فيه؛ لأن الأمة مجمعة أن الصلاة بوادى العقيق غير فرض، فبان بهذا أن أمره عليه السلام بالصلاة فيه نظير حثه لأمته على الصلاة فى مسجده ومسجد قباء والله الموفق‏.‏